فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الرابع: استنبط من الآية جواز المحاجة في أمر الدين، وأن من جادل وأنكر شيئًا من الشريعة جازت مباهلته اقتداء بما أمر به صلى الله عليه وسلم. والمباهلة: الملاعنة.
قال الكازروني في تفسيره: وقع البحث عند شيخنا العلامة الدواني قدس الله سره في جواز المباهلة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب رسالة في شروطها المستنبطة من الكتاب والسنة والآثار، وكلام الأئمة، وحاصل كلامه فيها: أنها لا تجوز إلا في أمر مهم شرعًا، وقع فيه اشتباه وعناد لا يتيسر دفعه إلا بالمباهلة، فيشترط كونها بعد إقامة الحجة والسعي في إزالة الشبهة وتقديم النصح والإنذار وعدم نفع ذلك، ومساس الضرورة إليها.
قال الإمام صديق خان في تفسيره: وقد دعا الحافظ ابن القيم، رحمه الله، من خالفه في مسألة صفات الرب تعالى شأنه وإجرائها على ظواهرها من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل، إلى المباهلة بين الركن والمقام، فلم يجبه إلى ذلك، وخاف سوء العاقبة. وتمام هذه القصة مذكور في أول كتابه المعروف بالنونية- انتهى- وقد ذكر في زاد المعاد في فصل فقه قصة وفد نجران ما نصه: ومنها أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا، بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة، وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله، ولم يقل: إن ذلك ليس لأمتك من بعدك. ودعا إليه ابن عمه عبد الله بن عباس لمن أنكر عليه بعض مسائل الفروع، ولم ينكر عليه الصحابة، ودعا إليه الأوزاعي سفيان الثوري في مسألة رفع اليدين، ولم ينكر عليه ذلك، وهذا من تمام الحجة- انتهى-. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور:

قال رحمه الله:
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ} [61].
تفريع على قوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فلا تكن من الممترين} لما فيه من إيماء إلى أن وفد نجران ممترون في هذا الذي بين الله لهم في هذه الآيات: أي فإن استمروا على محاجتهم إياك مكابرة في هذا الحق أو في شأن عيسى فادعهم إلى المباهلة والملاعنة.
ذلك أن تصميمهم على معتقدهم بعد هذا البيان مكابرة محضة بعد ما جاءك من العلم وبينت لهم، فلم يبق أوضح مما حاججتهم به فعلمت أنهم إنما يحاجونك عن مكابرة، وقلة يقين، فادعهم إلى المباهلة بالملاعنة الموصوفة هنا.
و{تعالوا} اسم فعل لطلب القدوم، وهو في الأصل أمر من تعالى يتعالى إذا قصد العلو، فكأنهم أرادوا في الأصل أمرا بالصعود إلى مكان عال تشريفا للمدعو، ثم شاع حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور، وأجريت عليه أحوال اسم الفعل فهو مبني على فتح آخره وأما قول أبي فراس الحمداني:
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا ** تعالي أقاسك الهموم تعالي

فقد لحنوه فيه.
ومعنى: {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} ائتوا وادعوا أبناءكم ونحن ندعو أبناءنا إلى آخره، والمقصود هو قوله: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} إلى آخره.
وثم هنا للتراخي الرتبي.
والابتهال مشتق من البهل وهو الدعاء باللعن ويطلق على الاجتهاد في الدعاء مطلقا لأن الداعي باللعن يجتهد في دعائه والمراد في الآية المعنى الأول.
ومعنى {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ الله} فندع بإيقاع اللعنة على الكاذبين.
وهذا الدعاء إلى المباهلة إلجاء لهم إلى أن يعترفوا بالحق أو يكفوا.
روى المفسرون وأهل السيرة أن وفد نجران لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملاعنة قال لهم العاقب: نلاعنه فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا ولا عقبنا من بعدنا فلم يجيبوا إلى المباهلة وعدلوا إلى المصالحة كما سيأتي.
وهذه المباهلة لعلها من طرق التناصف عند النصارى فدعاهم إليها النبي صلى الله عليه وسلم لإقامة الحجة عليهم.
وإنما جمع في الملاعنة الأبناء والنساء: لأنه لما ظهرت مكابرتهم في الحق وحب الدنيا، علم أن من هذه صفته يكون أهله ونساؤه أحب إليه من الحق كما قال شعيب أرهطي أعز عليكم من الله وأنه يخشى سوء العيش، وفقدان الأهل، ولا يخشى عذاب الآخرة.
والظاهر أن المراد بضمير المتكلم المشارك أنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المسلمين، والذين يحضرهم لذلك وأبناء أهل الوفد ونساؤهم اللائي كن معهم.
والنساء: الأزواج لا محالة، وهو إطلاق معروف عند العرب إذا أضيف لفظ النساء إلى واحد أو جماعة دون ما إذا ورد غير مضاف، قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] وقال: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} وقال النابغة:
حذارا على أن لا تنال مقادتي ** ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا

والأنفس أنفس المتكلمين وأنفس المخاطبين أي وإيانا عَلَى الْكَاذِبِينَ وإياكم، وأما الأبناء فيحتمل أن المراد شبأنهم، ويحتمل أنه يشمل الصبيان، والمقصود أن تعود عليهم آثار الملاعنة.
والابتهال افتعال من البهل، وهو اللعن، يقال: بهله الله بمعنى لعنه واللعنة بهلة وبهلة بالضم والفتح ثم استعمل الابتهال مجازا مشهورا في مطلق الدعاء قال الأعشى:
لا تقعدن وقد أكلتها حطبا ** تعوذ من شرها يوما وتبتهل

وهو المراد هنا بدليل أنه فرع عليه قوله: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ} على الكاذبين.
وهذه دعوة إنصاف لا يدعو لها إلا واثق بأنه على الحق.
وهذه المباهلة لم تقع لأن نصارى نجران لم يستجيبوا إليها.
وقد روى أبو نعيم في الدلائل أن النبي هيأ عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ليصحبهم معه للمباهلة.
ولم يذكروا فيه إحضار نسائه ولا إحضار بعض المسلمين. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآيتين:

قال رحمه الله:
{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ}.
لقد جاء الحق البيّن والقول الفصل من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فلا مجال للشك أو المراء، ومن يرد أن يحتكم إلى أحدٍ فليقبل الاحتكام إلى الإله العادل الذي لن يحكم بالباطل أبدا، فهو سبحانه الحق، ويجيء هذا القول: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ}. إن الطرفين مدعوان ليوجها الدعوة لأبنائهم ونسائهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم مدعو لدعوة أبنائه ونسائه، ومن له الولاية عليهم، وبحضوره هو صلى الله عليه وسلم، وهم مدعون لدعوة أبنائهم ونسائهم وأنفسهم للابتهال.
وقد يسأل سائل: ولماذا تكون الدعوة للأبناء والنساء؟ والإجابة هي: أن الأبناء والنساء هم القرابة القريبة التي تهم كل إنسان، وإن لم يكن رسولا، إنهم بضعة من نفسه وأهله. فكان الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يقول لهم: هاتوا أحبابكم من الأبناء والنساء لأنهم أعزة الأهل وألصقهم بالقلوب وادخلوا معنا في مباهلة.
والمباهلة: هي التضرع في الدعاء لاستنزال اللعنة على الكاذب، فالبهلة- بضم الباء- هي اللعنة، وعندما يقول الطرفان: يارب لتنزل لعنتك على الكذاب منا فهذا دعاء يحمل مطلق العدالة، فالإله الذي يستطيع أن ينزل اللعنة هو الإله الحق. وهو سينزل اللعنة على من يشركون به، ولو كانت اللعنة تنزل من الآلهة المتعددة فسوف تنزل اللعنة على أتباع الإله الواحد.
ولهذا كانت الدعوة إلى المباهلة والبهلة- كما قلنا- وهي ضراعة إلى القوة القاهرة التي تتصرف في الأمر لتنهى الخلاف، ثم صار المراد بالمباهلة هنا مطلق الدعاء، فنحن نقول: نبتهل إلى الله، أي ندعو الله.
إذن فالرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم بالأمر المنزل من عند الله الحق بدعوة الأبناء والنساء والأنفس، لكنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: أَنْظِرْنا إلى غد ونأتي إليك.
ثم أرسلوا في الصباح واحدا منهم ليرى ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل هو مستعد لهذا الأمر حقيقة، أو هو مجرد قول منه أراد به التهديد فقط؟ ووجد رسولهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء ومعه الحسين والحسن وفاطمة وعلي بن أبي طالب، لذلك قالوا: لا لن نستطيع المباهلة، والله ما باهل قوم نبيا إلا أخذوا، وحاولوا ترضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لنظل على ديننا ويظل محمد وأتباعه على دينه لقد ظنوا ان الدعوة إلى المباهلة هي مجرد تهديد لن ينفذه الرسول، لكن صاحب اليقين الصادق جاء ومعه أهله استعدادا للمباهلة، ولن يُقبل على مثل هذا الموقف الا من عنده عميق الإيمان واليقين، أما الذي لا يملك يقينًا فلن يقبل على المباهلة بل لابد ان يرجع عنها.
وقد رجعوا عن المباهلة، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: لنتفق معا ألا تغزونا أو تخيفنا على أن نرسل لك الجزية في رجب وفي صفر وهي من الخيل وغير ذلك! لقد فروا من المباهلة لمعرفتهم أنهم في شك من أمرهم، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان على يقين بما أنزل الله عليه وكان العرب إذا خرجوا إلى الحرب يأخذون نساءهم معهم، لذلك حتى يخجل الرجل من الفرار، وحتى لا يترك أولاده ونساءه لكيلا يذلوا من بعد موته، فإن قُتِلَ قُتلوا معه هم أيضا.
إذن إن أردنا نحن الآن أن ننهي الجدل في مسألة عيسى عليه السلام فلنسمع قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ} أنه الحق القادم من الربوبية فلا تكن أيها السامع من الشاكين في هذه المسألة. ومن أراد أن يأتي بحجة مضادة للحجة القادمة من الله فلنا أن نحسمها بأن نقول: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ}.
ولن يجرؤ واحد منهم على ذلك. لماذا؟ لأن السابقين عليهم قد فروا من المباهلة ولأن الله سبحانه يريد ان يزيد المؤمنين إيمانا واطمئنانا إلى أن ما ينزله على رسوله هو الحق قال- جل شأنه-: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ}.
لقد جاء الحق البيّن والقول الفصل من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فلا مجال للشك أو المراء، ومن يرد أن يحتكم إلى أحدٍ فليقبل الاحتكام إلى الإله العادل الذي لن يحكم بالباطل أبدا، فهو سبحانه الحق، ويجيء هذا القول: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ}. إن الطرفين مدعوان ليوجها الدعوة لأبنائهم ونسائهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم مدعو لدعوة أبنائه ونسائه، ومن له الولاية عليهم، وبحضوره هو صلى الله عليه وسلم، وهم مدعون لدعوة أبنائهم ونسائهم وأنفسهم للابتهال.
وقد يسأل سائل: ولماذا تكون الدعوة للأبناء والنساء؟ والإجابة هي: أن الأبناء والنساء هم القرابة القريبة التي تهم كل إنسان، وإن لم يكن رسولا، إنهم بضعة من نفسه وأهله. فكان الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يقول لهم: هاتوا أحبابكم من الأبناء والنساء لأنهم أعزة الأهل وألصقهم بالقلوب وادخلوا معنا في مباهلة والمباهلة: هي التضرع في الدعاء لاستنزال اللعنة على الكاذب، فالبهلة- بضم الباء- هي اللعنة، وعندما يقول الطرفان: يارب لتنزل لعنتك على الكذاب منا فهذا دعاء يحمل مطلق العدالة، فالإله الذي يستطيع أن ينزل اللعنة هو الإله الحق. وهو سينزل اللعنة على من يشركون به، ولو كانت اللعنة تنزل من الآلهة المتعددة فسوف تنزل اللعنة على أتباع الإله الواحد.
ولهذا كانت الدعوة إلى المباهلة والبهلة- كما قلنا- وهي ضراعة إلى القوة القاهرة التي تتصرف في الأمر لتنهى الخلاف، ثم صار المراد بالمباهلة هنا مطلق الدعاء، فنحن نقول: نبتهل إلى الله، أي ندعو الله.
إذن فالرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم بالأمر المنزل من عند الله الحق بدعوة الأبناء والنساء والأنفس، لكنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: أَنْظِرْنا إلى غد ونأتي إليك.
ثم أرسلوا في الصباح واحدا منهم ليرى ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل هو مستعد لهذا الأمر حقيقة، أو هو مجرد قول منه أراد به التهديد فقط؟ ووجد رسولهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء ومعه الحسين والحسن وفاطمة وعلي بن أبي طالب، لذلك قالوا: لا لن نستطيع المباهلة، والله ما باهل قوم نبيا إلا أخذوا، وحاولوا ترضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لنظل على ديننا ويظل محمد وأتباعه على دينه لقد ظنوا ان الدعوة إلى المباهلة هي مجرد تهديد لن ينفذه الرسول، لكن صاحب اليقين الصادق جاء ومعه أهله استعدادا للمباهلة، ولن يُقبل على مثل هذا الموقف الا من عنده عميق الإيمان واليقين، أما الذي لا يملك يقينًا فلن يقبل على المباهلة بل لابد ان يرجع عنها.
وقد رجعوا عن المباهلة، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: لنتفق معا ألا تغزونا أو تخيفنا على أن نرسل لك الجزية في رجب وفي صفر وهي من الخيل وغير ذلك! لقد فروا من المباهلة لمعرفتهم أنهم في شك من أمرهم، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان على يقين بما أنزل الله عليه وكان العرب إذا خرجوا إلى الحرب يأخذون نساءهم معهم، لذلك حتى يخجل الرجل من الفرار، وحتى لا يترك أولاده ونساءه لكيلا يذلوا من بعد موته، فإن قُتِلَ قُتلوا معه هم أيضا.
إذن إن أردنا نحن الآن أن ننهي الجدل في مسألة عيسى عليه السلام فلنسمع قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ} أنه الحق القادم من الربوبية فلا تكن أيها السامع من الشاكين في هذه المسألة. ومن أراد أن يأتي بحجة مضادة للحجة القادمة من الله فلنا أن نحسمها بأن نقول: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ}.
ولن يجرؤ واحد منهم على ذلك. لماذا؟ لأن السابقين عليهم قد فروا من المباهلة ولأن الله سبحانه يريد ان يزيد المؤمنين إيمانا واطمئنانا إلى أن ما ينزله على رسوله هو الحق قال- جل شأنه-: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ}. اهـ.

.تفسير الآية رقم (62):

قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا الله وَإِنَّ الله لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان العلم الأزلي حاصلًا بأن المجادلين في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام يكفون عن المباهلة بعد المجادلة خوفًا من الاستئصال في العاجلة مع الخزي الدائم في الآجلة، وكان كفهم عن ذلك موجبًا للقطع بإبطالهم في دعواهم لكل من يشاهدهم أو يتصل به خبرهم، حسن كل الحسن تعقيب ذلك بقوله:- تنبيهًا على ما فيه من العظمة- {إن هذا} أي الذي تقدم ذكره من أمر عيسى عليه السلام وغيره {لهو} أي خاصة دون غيره مما يضاده {القصص الحق} والقصص- كما قال الحرالي- تتبع الوقائع بالإخبار عنها شيئًا بعد شيء على ترتيبها، في معنى قص الأثر، وهو اتباعه حتى ينتهي إلى محل ذي الأثر- انتهى.
ولما بدأ سبحانه وتعالى القصة أول السورة بالإخبار بوحدانيته مستدلًا على ذلك بأنه الحي القيوم صريحًا ختمها بمثل ذلك إشارة وتلويحًا فقال- عاطفًا على ما أنتجه ما تقدم من أن عيسى صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله معممًا للحكم معرقًا بزيادة الجار في النفي: {وما من إله} أي معبود بحق، لأن له صفات الكمال، فهو بحيث يضر وينفع {إلا الله} أي المحيط بصفات الكمال، لأنه الحي القيوم- كما مضى التصريح به، فاندرج في ذلك عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره، وقد علم من هذا السياق أنهم لما علموا تفرده تركوا المباهلة رهبة منه سبحانه وتعالى علمًا منهم بأنهم له عاصون ولحقّه مضيعون وأن ما يدعون إلهيته لا شيء في يده من الدفع عنهم ولا من النفع لهم، فلا برهان أقطع من هذا.
ولما كان في نفي العزة والحكمة عن غيره تعالى نوع خفاء أتى بالوصفين على طريق الحصر فقال- عاطفًا على ما قدّرته مام أرشد السياق إلى أنه علة ما قبله من نفي: {وإن الله} أي الملك الأعظم {لهو} أي وحده {العزيز الحكيم} وهذا بخلاف الحياة والقيومية فإنه لم يؤت بهما على طريق الحصر لظهورهما، وقد علم بلا شبهة بما علم من أنه لا عزيز ولا حكيم إلا هو أنه لا إله إلا هو. اهـ.